السياسة الجزائية في أحكام الشيك على ضوء القانون عدد 41 لسنة 2024
Article By : فهد زنينة
إن العالقة التجارية قائمة على السرعة والضمان والخالص. ولكي يتحقق ذلك يلجأ التجار وغيرهم الى التعامل باألوراق التجارية. فكل ورقة يختلف دورها عن األخرى، الشيك مثال يمثل وسيلة خالص عكس ما يتم تداوله من اعتماده كسند ضمان. لذلك يحظى باهتمام كبير من المشرع سواء من الجانب المدني أو الجزائي. وفي إطار هذا األخير وأمام التحديات االقتصادية يجد المشرع نفسه مجبرا على إعادة تنظيم السياسة الجزائية للشيك بما يتماشى مع تداعيات الوضع الحالي، وقد سن المشرع القانون عدد 14 لسنة 4202 المؤرخ في 2 أوت 4202 المتعلق ب تنقيح بعض أحكام المجلة التجارية. وتعرف السياسة الجزائية بأنها ” هي الخريطة المرسومة من قبل الدولة في تعاملها مع مختلف المسائل التي تتعقبها ويكون ذلك من خالل التجريم والعقاب”. وهذه السياسة الجزائية وفقا لمفهومها العلمي الحديث يتم التخطيط لها على أساس أن الجريمة ظاهرة اجتماعية لها أسبابها االجتماعية والبيئي ة المحيطة بالجريمة والمجرم والحالة االجرامية. ومؤخرا أصبح تدخل القانون الجزائي في المجاالت األخرى مكثفا ويمكن تفسير ذلك برغبة المشرع في حماية مصالح األفراد عبر وضع قواعد زجرية نظرا لقصور قواعد القانون المدني عن تحقيق الحماية. وفي هذا اإلطار كان الشيك محل اهتمام تشريعي، باعتباره ورقة تجارية هامة في المنظومة االقتصادية، إذ ال تكاد المعامالت التجارية أو المدنية تخلو منه، لذلك أصبح من الضروري تحسين منظومة الشيك، حيث كان ذلك عبر اآلليات التجريمية والعقابية المنضوية تحت شعار السياسة الجزائية. وهذه السياسة الجزائية تتغير بتغيير الزمان باعتبار أن قواعد القانون الجزائي دائما ما يجب أن تكون في ديناميكية وذلك لمواكبة التطورات المجتمعية، وعليه يعد القانون عدد 14 لسنة 4202 المؤرخ في 2 أوت 4202 استجابة لما نادى به رجال ونساء القانون، من ضرورة التغيير من النظام القانوني المتعلق بالشيك، كالتقليص من العقاب السجني مع وضع آليات أخرى تسهل التعامل بالشيك من أجل أن يؤدي وظيفته األساسية وهي الخالص. وهذه التغييرات التي جاء بها القانون عدد 41 كانت على المستوى الشكلي والموضوعي. أما بخصوص الجانب الشكلي فقد تم إلغاء جملة من الفصول وتعويضها بأخرى إضافة الى تعديل إجراءات التتبع الجزائي. أما على المستوى الموضوعي، فقد تدخل المشرع عبر آلية التجريم حيث أبقى نسبيا على عنصر التجريم بخصوص أفعال معينة وأضاف جرائم جديدة، كما أنه غ ير في المنظومة العقابية. وبالتمعن في أحكام القانون عدد 14 لسنة 4202 يالحظ أن السياسة الجزائية المتبعة تمتاز بالمرونة تارة وبالتشدد تارة أخرى مما يمكن معه طرح اإلشكالية التالية، في ماذا تتمثل مالمح السياسة الجزائية في أحكام الشيك على ضوء القانون عدد 14 لسنة 4202؟ اإلجابة عن اإلشكالية المطروحة انطالقا من التنقيح تكون عبر التعرض الى السياسة التجريمية )جزء أول( ثم التطرق الى السياسة العقابية ) جزء ثاني(. الجزء األول: السياسة التجريمية في أحكام القانون عدد 41 إتخذ المشرع سياسة تجريمية قائمة على الصرامة والليونة وذلك بحسب الحالة. إذ قام بالنزع الجزئي للتجريم في صورة )أ( وتوسع في دائرة التجر ي م عبر إبقائه على جرائم و إضافة أخرى) ب(. أ/ النزع الجزئي للتجريم المقصود بذلك أن التجريم لم يعد قائما في حدود معينة، ويتعلق األمر بصورة إصدار شيك بدون رصيد وفقا لمقدار مضبوط. فجريمة إإصدار شيك بدون رصيد موجودة من قبل وهي األكثر شيوعا في مادة الشيك. إذ كانت محور اهتمام العديد من شرائح المجتمع باعتبار أن الفئة األولى الموجه إليها القانون هي المواطن وكذلك كانت موضوع نقاش فقهي بخصوص نظامها القانوني الصارم واالشكاليات التطبيقية المثارة. وهو ما جعل العديد من رجال القانون ينادون بضرورة تغيير السياسة الجزائية في قانون الشيك باعتبارها أضحت قاصرة على مجابهة التطورات المشهودة. ورغبة منه في تجاوز اإلشكاليات التطبيقية السائدة، تدخل المشرع بموجب القانون عدد 41 لسنة 2024 وغير من سياسته الجزائية وذلك بمزيد تدعيمه لسياسة التوقي من جهة ومن جهة أخرى بالنزع الجزئي للتجريم. وفي هذا اإلطار نزع المشرع التجريم بخصوص إصدار شيك بدون رصيد قيمته تساوي أو تقل عن الخمسة آالف دينار واشترط لقيام جريمة الفصل 114 توفر العناصر المكونة للركن المادي والمتمثلة في وجود شيك وقع إصداره متضمنا قيمة تتجاوز الخمسة آالف دينار و انعدام الرصيد . بالنسبة الى العنصر األول، وجود شيك وقع إصداره يقصد به أن الشيك بالفعل موجود ووقع إنشائه من قبل الساحب الذي بموجب ذلك تخلى عن ملكيته لفائدة المستفيد من السند. وهذا الشيك يكون مطابقا للمواصفات التي وقع تحديدها مسبقا بموجب القانون ويكون محدد القيمة أي متضمنا لمبلغ يتجاوز الخمسة آالف دينار . وبهذا التجديد يكون المشرع قد نزع جزئيا في التجريم وأبقى عليه كلما كانت قيمة السند أكثر من خمسة آالف دينار. إضافة الى هذا العنصر المذكور البد من اقترانه بعنصر آخر لقيام جريمة الفصل 411 وهو انعدام الرصيد سواء كان ذلك كليا أو جزئيا وقد عبر المشرع عن هذا العنصر ب” رصيد سابق وقابل للتصرف فيه أو كان الرصيد أقل من مبلغ الشيك…”. والرصيد يكون منعدما إذا لم يتوفر الساحب على المبلغ الموافق لقيمة ما هو مضمن بالشيك. أما الرصيد الجزئي فيتمثل في كون الرصيد الموجود قيمته أقل من تلك المضمنة بالشيك عند إصداره. وتجدر اإلشارة الى أن جريمة إصدار الشيك بدون رصيد يجب أن تكون مبنية على شكاية و إال فإن التتبعات ال يمكن إثارتها وهذا عكس ما كان عليه األمر قبل التنقيح، ذلك أن البنك يقوم بإحالة الملف على أنظار النيابة العمومية التي تتولى إحالة الساحب مباشرة على المحكمة دون أن يتوقف االمر على إجراء بحث ابتدائي أو فتح تحقيق. وكل هذه اإلجراءات تنطلق بمجرد عدم التسوية من قبل الساحب في اآلجال القانونية. ب/ التجريم الكلي إن السياسة الجزائية للمشرع في القانون عدد 14 لم تقتصر فقط على نزع التجريم الجزئي بل توسعت في التجريم. إذ يمكن حصر ذلك في ثالث نقاط: جرائم تتعلق بشخص الساحب، أخرى يرتكبها المستفيد والنوع األخير الجرائم المتعلقة بالمسحوب عليه. إن للساحب دورا كبير في الشيك، إذ ال يمكن قطعا الحديث عن شيك دون وجوده، فهو منشئ السند . هذا الساحب قد يرتكب جرائم عديدة لذلك كان المشرع فطنا وجرم جملة من األفعال التي قد يتولى منشئ السند إتيانها. وهذه الجرائم تتمثل في جريمة إصدار شيك بدون رصيد وكنا قد تناولناها سابقا بمناسبة الحديث عن التجريم الجزئي وجريمة استرجاع الرصيد وتجميد الرصيد. أما عن جريمة استرجاع الرصيد فقد حدد الفصل 114 جديد في فقرته األولى عناصر قيامها. حيث أن الركن المادي فيها يتمثل في عملية استرجاع الرصيد بأي وسيلة كانت مما ينتج عنه اضمحالل في الرصيد. هذا االسترجاع يرتكب من أشخاص معينين وهم الساحب أو وكيله باعتبارهما المعنيين بالسند زمن إنشائه. وقد طرح إشكال بخصوص ما إذا كانت العملية قد تمت من قبل الغير دون أن تكون الوكالة صحيحة أو في غيابها . وقد اعتبر أغلب شراح القانون أن الساحب غير مسؤول عن هذا االسترجاع وذلك لعدم وجود أساس لقيام الغير بهذه العملية. أما بخصوص الركن المعنوي لهذه الجريمة فلم يشترط المشرع بالفصل 114 جديد فقرة أولى نية االضرار بالمستفيد بل فقط الجريمة تقوم بمجرد أن يكون الساحب عالما بعملية االسترجاع. الساحب قد يرتكب أيضا جريمة أخرى لا تقل أهمية وهي جريمة تجميد الرصيد والتي يكون معاقبا عنها حتى وإن كانت بعد انقضاء أجل العرض مثلما هو الشأن بالنسبة الى سحب الرصيد. تقوم هذه الجريمة ب اعتراض مصدر الشيك )الساحب( على خالصه لدى المسحوب عليه في غير الصور الواردة بالفصل 473 من المجلة التجارية . وهي ثالثة صورة سرقة السند أو ضياعه أو تفليس الحامل. ويستنتج أن االعتراض الواقع خارج الصور المذكورة يجعل الجريمة قائمة ألن المستفيد لن يتمكن من الحصول على المبلغ المضمن بالشيك نتيجة المنع غير المشروع من قبل الساحب. لم يكتف المشرع في القانون عدد 14 بتجريم جملة من األفعال التي قد يرتكبها الساحب بل امتد األمر حتى للمستفيد من الشيك، وقد يتبادر الى األذهان كيف للمستفيد أن يرتكب جرائم تتعلق بالشيك والحال أنه المتمتع بمزاياه؟ لكن هذا التصور خاطئ ذلك أن المستفيد قد يكون مرتكبا لجرائم شأنه شأن الساحب والمسحوب عليه. وبالعودة الى القانون عدد 14 تتمثل الجرائم التي قد يرتكبها المستفيد في جريمة تسلم شيك على وجه الضمان وجريمة قبول الشيك بدون رصيد مع العلم بانتفائه. أما عن جريمة قبول شيك بدون رصيد مع العلم بعدم توفره، فقد نص عليها الفصل 114 جديد مطة ثالثة وحدد عناصرها. إذ أنها تقوم بتحقق عنصرين مجتمعين: الأول قبول المستفيد للشيك من جهة أي موافقته على ذلك بصريح العبارة أو بأي عمل يدل على ذلك ونيته في تملكه مع علمه بغياب الرصيد كليا أو جزئيا من جهة أخرى. وتجدر اإلشارة إلى أن تجريم المشرع لهذه األفعال يعتبر أمرا في طريقه وذلك لتجنب اعتماد الشيك كأداة للضمان. فالفصل 114 جديد مطة رابعة جرم بدوره تسلم الشيك على وجه الضمان. وقد اعتبر البعض من شراح القانون أن هذه الجريمة هي نفسها قبول شيك بدون رصيد مع العلم بانتفائه، ذلك أن وظ يفة السند هنا انتقلت من أداة خالص الى أداة ضمان أو ائتمان وهو ما يتعارض مع فلسفة المشرع. أما فيما يتعلق بالجرائم التي قد يرتكبها المسحوب عليه فأساس هذه الجريمة هو الفصل 214 مطة أولى حيث يقوم المصرف المسحوب عليه متعمدا بتعيين أو تحديد رصيد أقل من مبلغ الرصيد المتوفر لديه ويترتب عن ذلك قيام المسؤولية الجزائية والمدنية للمصرف بحيث يكون مجبرا بالتعويض لفائدة المستفيد.