حرّية التعبير في الفضاء الرقمي: بين التقييد والتكريس
Article By : مريم الزريبي
مقدمة : شهدت الحريات الفرديّة منذ بداية القرن الماضي تطورا لم تشهدّه من قبل على مستوى ممارستها. ويعود هذا بالأساس الى ارتباطها بالفضاء الرقمي الّذي أفسح لها المجال لتمارس بطريقة مثلى حيث أن اقتران التطوّر التّكنولوجي والرقمي بالمجال القانوني يعدّ من الظواهر المستجدّة خاصة مع ظهور حريّة مستحدثة تعرف بالحرّية الرقمية نسبة للفضاء الذي تمارس فيه. تعدّ حريّة التعبير إحدى الحقوق الأساسية الّتي يقوم عليها المجتمع الدولي وإحدى الدعائم الجوهرية في أي مجتمع ديموقراطي. وتبرز أهميتها من خلال تكريسها صلب النصوص القانونيّة على المستوى الدولي كما الوطني. فقد سجلت حضورها في عديد المعاهدات الدوليّة على غرار الفصل التاسع عشر من الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية الّذي أكد على الحقّ في حرية التعبير الّتي تشمل البحث والاستقبال وإرسال المعلومات والأفكار عبر أي وسيط بغض النظر عن الحدود. وعرّفها الإعلان العالمي لحقوق الانسان أيضا على أنها تمتّع كل شخص بحرّية التعبير ويشمل هذا الحقّ حريّة اعتناق الآراء دون فرضها عليه من الأخرين، واستقاء الأنباء والأفكار و تلقيها وإذاعتها بأيّة وسيلة كانت دون التقيّد بالحدود الجغرافيّة. أمّا الاتفاقيّة الأوروبية لحقوق الانسان فنصّت على أن لكلّ فرد الحقّ في حرية التعبير و يشمل الحقّ تبني الآراء ونقل المعلومات والأفكار دون تدخّل من قبل المصلحة العامة وبغضّ النظر عن الحدود. على غرار حريّة التّعبير، يعرّف الفضاء الرقمي بوصفه ” فضاء يجمع بين مكونين هما الفضاء و الزمان الإلكترونيين، تم خلقه بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي التي أقيمت بين الحواسيب، إنه فضاء للشبكات الآلية والعضوية المترابطة فيما بينها بشكل متناهي بلا حدود”. إنّ فهم الأهمية التّاريخية لحريّة التعبير يعدّ ضروريًا، ففي القرن السابع عشر، كانت التأملات الفلسفية تتعلق بشكل رئيسي بحرية الضمير والمعتقد الديني. كان الارتباط بين استقلالية الضمير والتسامح الديني حاسمًا في التاريخ الحديث لحرية التعبير. وهكذا، فإن فكرة الضمير الفردي المستقل والحر في تصور إلهه كانت لها نتيجة طبيعية تتمثل في الالتزام الأخلاقي بالتسامح مع التعبير عن قناعته الدينية ولكن من المؤكد أن هذا ينطبق فقط على التعبير عن القناعة الدينية، وليس على حرية التعبير بشكل عام. تمّ تطوير مفهوم حريّة التعبير على يد اثنين من الفلاسفة أولهما جون لوك الّذي قدّم، بكتاباته عن التسامح عام 0661 و”رسالته عن التسامح” اللاحقة، مساهمة كبيرة في تاريخ حرية التعبير على المستوى الأوروبي. أيضا سلّط بيير بايل الضوء على مفهوم حرية الضمير من خلال الحديث على مبدأ التعبير الحر وأسس التسامح على المبادئ الأخلاقية. في ظلّ التطور التكنولوجي و الرقمي، و باعتبار أن الحريات الفردية و خاصة منها حرّية التعبير ذات خصوصية على مستوى ممارستها حيث أنّ دقة المفارقة بين تكريسها و تقييدها يجعل مدلول “الحماية لحق- حريّة” سلاحا ذا حدّين. و في هذا الإطار، سنقوم بدراسة سُبل حماية حرية التعبير في الفضاء الرقمي، من خلال استعراض الأطر القانونية، والتقنيات الداعمة لها ودور المنصات الرقمية (الجزء الأوّل). و من جهة أخرى، سنناقش القيود المفروضة على حرية التعبير في الفضاء الرقمي، بما في ذلك القوانين التقييدية، وسياسات الرقابة، وتأثير الخوارزميات على الوصول إلى المعلومات (الجزء الثاني). الجزء الأوّل: تكريس حريّة التعبير في الفضاء الرقمي إنّ اقتران التكنولوجيا بالحرّيات الأساسيّة أسفر عن ظهور نوع جديد من الحرّيات يعرف بالحرّيات الرقميّة خاصّة منها حريّة التعبير الّتي ارتبطت ممارستها في الآونة الأخيرة بالفضاء الرقمي. بيد أنّ هذه الأخيرة تقتضي حماية خاصّة في فضاء ممارستها وهذا ما يفضي الى التطرّق الى آليات حماية حرّية التعبير في الفضاء الرقمي (القسم الاوّل) و البحث حول حياديّة المواقع الالكترونيّة باعتبارها الية حمائيّة (القسم الثاني). القسم الأوّل: آليات حماية حريّة التعبير في الفضاء الرقمي: تبرز ممارسة الحقوق الرقميّة من خلال ارتباطها بالحق في الوصول الى الانترنت الّذي نصت عليه عديد القوانين الدوليّة والوطنية باعتباره حقّا أساسيا من حقوق الانسان، وحريّة التعبير، حيث تمّ إقراره في تقرير المقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في 1102 حيث أن الدّول تضمن حق الوصول الى الأنترنت و البنية التحتية الملائمة لممارسته وإتاحة الوصول إلى الانترنت على مستوى دولي. إن حق الوصول الى الانترنت باعتباره لصيقا بحرية التعبير يقتضي بالضرورة لضمان ممارسة فعاّلة إرساء آليات غايتها حماية هذه الأخيرة في الفضاء الرقمي. حريّ بالذكر أنّ مفهوم الحقّ في النسيان اقترن بالفضاء الرقمي الذي يعتبر استجابة طبيعية لتطوير آلية قانونية تمكّن من إزالة المحتويات المعلوماتية المتعلقة بالمستخدمين والمنتشرة عبر الانترنت . يتجلى من خلال الحقّ في النسيان الرقمي حماية المعطيات الشخصيّة فحسب الدليل الأوروبي عدد 64- 59 الصادر عن البرلمان الأوروبي بتاريخ 24 أكتوبر 5991 بشأن حماية الأفراد فيما يتعلّق بمعالجة البيانات الشخصيّة ” كل معلومة متعلقة بشخص طبيعي معيّن أو قابل للتعيين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو إلى عنصر من العناصر المحددّة الخاصة بالهوية الجسديّة أو الفيسيولوجيّة أو العقليّة أو الاقتصاديّة أو الثقافيّة أو الاجتماعيّة”. من جهته عرّف الفصل 4 من القانون عدد 36 لسنة 4002 المؤرّخ في 72 جويلية 4002 والمتعلّق بحماية المعطيات الشخصّية هذه الأخيرة تتمثل في ” كل البيانات مهما كان مصدرها أو شكلها، والّتي تجعل شخصا طبيعيا معرّفا أو قابلا للتعريف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة”. إنّ الرابط بين الحق في النسيان الرقمي وحريّة التعبير بالأساس هو حماية المعطيات الشخصيّة وذلك عن طريق محو البيانات وهذا ما يتجلى في منطوق القرار التعقيبي الجزائي الصّادر في 31 أكتوبر 2020 الذي يؤكد على خصوصية المعلومات الخاصة بالفرد وعلى عدم جمعها لكونها تمسّ من الحياة الخاصّة للإنسان. من جهة أخرى أكّدت محكمة العدل الدوليّة في قرار لها صادر في 31 ماي 4102 على أنّ الحق في النسيان الرقمي يهدف الى حماية المعلومات الشخصيّة و عدم المساس بها. من جهة أخرى ولضمان حماية أكبر في الفضاء الرقمي، مكّن الحقّ في الهوية الخفية المستخدمين من ممارسة حريّة التعبير بصفة محميّة وذلك من خلال استعمال اسم مستعار لتسهيل عمليّة التعبير عبر المواقع الرقميّة من جهة وحماية المعطيات الشخصيّة للمستخدم من جهة أخرى بصفة خاصة حماية الفئات الخصوصيّة، نخصّ بالذّكر القصّر مستعملي الشبكة الرقمية. على مستوى النصوص القانونيّة لم يقع التطرّق الى الحقّ في الهويّة الخفيّة. لكنّ فقه القضاء الدّولي سلّط الضوء على هذه المسألة من خلال قرار صادر عن المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان بتاريخ 61 جوان 5102 أكّدت فيه على أن الحقّ في الهويّة الخفيّة هو الضامن للممارسة الفعالة لحريّة التعبير في الفضاء الرقمي. وتبنت المحكمة الأمريكيّة العليا أيضا نفس الموقف و يظهر هذا في قرار لها صادر سنة 5991 حيث أكدت على أنّ المستخدمين يمكنهم التعبير بحرية عن آرائهم تحت طائلة الحق في الهويّة الخفيّة. و لتعزيز حماية حريّة التعبير في الفضاء الرقمي، يعتبر الحق في التشفير من إحدى الآليات الحمائية الّتي تحمي سريّة وسلامة المعلومات حيث يعطي هذا الأخير حيّزا من الخصوصيّة لتمكين المستخدمين من اعتناق الآراء وممارسة حرّية التعبير دون تدخلات. يظهر الحقّ في التشفير فائدة خاصّة في بلورة الآراء وهو ما يحدث في المراسلات على الانترنت. وتتدخل الشركات أيضا في حماية خصوصية الأفراد والنّهوض بحرية الرأي والتّعبير مثال ذلك الشركات الّتي تقدّم خدمات من أجل حفظ البيانات على الانترنت. تعمل كذلك بعض الحكومات على الحقّ في التّشفير والتّشجيع عليه إذ يشجع القانون في اليونان الاستخدام الفعّال لأدوات التشفيروكذلك الحال في ألمانيا و النرويج .