رقابة القاضي الاداري على أعمال الإدارة -حماية الحقوق والحريات-

Article By :


مقدمة :
تُعدّ حماية الحقوق والحريات ركيزة أساسية في بناء دولة القانون، التي يخضع فيها جميع الفاعلين، سواء أشخاص قانون عام أو قانون خاص، لمنظومة قانونية. فدولة القانون تقوم على وجود نظام قانوني متكامل، تتدرّج فيه القواعد القانونية وعلى وجود رقابة قضائية تضمن الاتساق بين مختلف التشريعات، وعدم الخروج عنها.
يقوم تدرّج القواعد القانونية على مبدأ علوية الدستور الذي يفرض التزام كافة مؤسسات الدولة باحترام الأحكام الدستورية وحماية الحقوق من أي تجاوز، بما يرسّخ مبدأ العدالة والمساواة ويعزز الثقة في المؤسسات.
تتقاطع أعمال الإدارة مع الحقوق والحريات، ذلك أن ممارسة الإدارة لاختصاصاتها وأعمالها قد تفضي، في بعض الحالات، إلى المساس بهذه الحقوق والحريات. ولتبيان هذا الترابط، يقتضي الأمر تحديد مفهوم الإدارة وبيان طبيعة أعمالها، ثم التعرض لآليات الرقابة المفروضة عليها، باعتبارها الوسيلة الأساسية لضمان احترام الحقوق والحريات وحمايتها من أي تجاوز.

نظرا لارتباطها العميق بمبدأ الكرامة الإنسانية، مما يجعل صونها وتعزيزها التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا يهدف إلى ترسيخ حياة قائمة على العدل والاحترام وضمان العيش الكريم للجميع، تعتبر الحقوق والحريات الاختبار الذي يؤكد مدى نجاح الإدارة في شرعنة اعمالها. فالحقوق والحريات هي مجموعة من الضمانات الأساسية والمقومات الجوهرية التي تلازم الإنسان بصفته البشرية، سواء في علاقته بالدولة أو في تفاعله مع الأفراد والمؤسسات. ويعكس الاعتراف بهذه الحقوق، على الصعيدين الوطني والدولي، مدى تطوّر الفكر القانوني وتكريس القيم الكونية التي تقوم على احترام كرامة الإنسان وحريته، وتُرسي معايير واضحة لحمايتها. وتُعدّ رقابة القاضي، سواء القاضي الدستوري أو الإداري، إحدى أهمّ الضمانات التي تؤكد إلزامية هذه الحقوق وتحوّلها من مجرد شعارات أخلاقية إلى التزامات قانونية فعلية.

وعادةً ما يُرفق مصطلح “الحق” أو “الحقوق الأساسية” بـ «الحرية” وهو ما يستوجب الوقوف عند هذه المفاهيم وتحديد ما إذا كانت مترادفة أم أن فروقًا دقيقة تفصل بينها. ويُبيّن الفقه اتجاهين رئيسيين في هذا السياق: الأول يُميز بين حقوق الإنسان والحريات على أساس محتوى كل منهما؛ فالحرية تفترض قدرة ذاتية على الاختيار، وتقتضي من الدولة موقفًا سلبيًا بالامتناع عن التدخل، في حين أن الحق يستلزم في الغالب تدخلاً إيجابيًا من الدولة لتوفيره أو تنظيمه. أما الاتجاه الثاني، فيُؤسس التمييز على طبيعة القواعد القانونية التي تُكرّس هذه المفاهيم، فيربط الحقوق الأساسية بالنصوص الدستورية، ويُخضعها لرقابة القضاء الدستوري، بوصفها ذات مكانة عُليا في الهرم القانوني. إذ يُعرّف الفقيه “Louis Favoreu” الحقوق الأساسية بأنها تلك التي تتمتع بحماية دستورية وتخضع لرقابة القاضي ضد انتهاكات السلطتين التشريعية والتنفيذية. الأمر الذي يجعل هذه الحقوق لا تقتصر على بعدها النظري، بل تُمثل التزامًا فعليًا على عاتق الدولة، يُراقبه أساسا القاضي ومختلف السلط المُضادّة في الدولة وذلك لحماية الحقوق والحريات من الانتهاكات المنجرّة عن أعمال الإدارة.

وتعرف الإدارة بأنها “مجموع الهياكل التابعة للدولة، والمكلفة بتنفيذ سياستها في مختلف مجالات الحياة العامة”، وهي تمارس اختصاصاتها من خلال جملة من الأعمال التي تصدر عنها أثناء مباشرتها لوظيفتها الإدارية. وتنقسم هذه الأعمال إلى أعمال قانونية وأعمال مادية. ويقصد بالأعمال القانونية تلك التي تهدف الإدارة من خلالها إلى ترتيب آثار قانونية معينة، إما بإنشاء مراكز قانونية جديدة أو تعديلها أو إلغائها، وهي إما أن تصدر بناءً على اتفاق بين الإدارة وأحد الأفراد أو الأشخاص المعنوية الخاصة، وهو ما يعرف بالعقود الإدارية، أو تصدر بإرادة منفردة من جانب الإدارة، وهو ما يطلق عليه القرارات الإدارية. أما الأعمال المادية فهي تلك التصرفات التي تقوم بها الإدارة دون أن تستهدف من ورائها إحداث أثر قانوني معين، وإنما يكون الهدف منها تنفيذ نصوص قانونية أو قرارات إدارية نافذة، مثل تنفيذ قرارات الهدم أو الإزالة، وهي أعمال قد تلحق ضرراً بالأفراد، مما قد يثير مساءلة الإدارة عنها.

ونظراً لما قد تنتجه هذه الأعمال الإدارية، القانونية منها أو المادية، من مخاطر على الحقوق والحريات، برزت أهمية الرقابة على عمل الإدارة كضمانة أساسية لحماية تلك الحقوق ومنع أي تعسف في استعمال السلطة، وذلك من خلال إخضاع تصرفاتها لمراقبة القضاء أو لآليات رقابية أخرى تكفل التوازن بين ضرورة سير المرفق العام بانتظام وبين احترام حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية.

تنقسم الرقابة على الإدارة، حسب الأستاذ CHAPUS René، إلى نوعين: رقابة غير نزاعية ورقابة نزاعية. ويعتمد الفقيه في هذا التقسيم على معيار “النزاع” ثم معيار “الهيكل” المتداخل في الأمر نظرا لتصنيفه صنفي الرقابة المذكورة أعلاه إلى صنفين فرعيّين ألا وهما “الرقابة الداخلية والرقابة الخارجية” وأيضا “الرقابة الإدارية والرقابة القضائية”.

إلا أن جانبا من الفقه، يتّجه إلى تقسيم هذه الرقابة حسب معيار يقدم فيه الهيكل ويؤخر فيه النزاع الذي يؤدي إلى نموذجين اثنين من الرقابة على الإدارة الأول يشمل طرق الرقابة القضائية والثاني يشمل طرق الرقابة الإدارية. وفي هذا الإطار، يعرف الفقيه عياض بن عاشور الرقابة القضائية على أنها “تلك التي تهدف إلى البت في النزاعات حول الحقوق أو الشرعية، بين الإدارة من جهة، والغير من جهة أخرى، وهو حال قضاء الإلغاء، والتعويض، والانتزاع، والنزاعات الانتخابية والجبائية وغيرها”.

وبالرجوع إلى الفقه الفرنسي، تعرّف الرقابة القضائية استناداً إلى عنصرين أساسيين: “أولاً، هي رقابة يمارسها قضاة، أي رجال قانون مستقلون، يتمتعون بكفاءة تقنية واختصاص قانوني في المجال القضائي. ثانياً، هي رقابة تتم وفقاً لإجراءات قضائية محددة، تُباشر بناءً على عريضة أو طعن يُقدّم من أحد الأطراف، إذ أن القاضي لا يتدخل تلقائياً من تلقاء نفسه، بل بناءً على طلب يُقدّم إليه. وتخضع هذه الرقابة لقواعد صارمة، حيث يلتزم القاضي بالفصل في النزاع المعروض عليه، ويتعين عليه أن يجيب صراحة على كافة الدفوع والطلبات المثارة أمامه، من خلال أحكام معلّلة ومؤسسة على اعتبارات قانونية واضحة”.

وبوصفها إحدى الضمانات الأساسية لحماية الحقوق والحريات، تعكس الرقابة القضائية في تونس خصوصية ناجمة عن إندراجها في نظام قضائي يقوم على مبدأ الازدواجية القضائية، مما يجعل الحقوق والحريات مجالا مشتركا بين القضاء العدلي والقضاء الإداري، كلّ في مجال اختصاصه. ويعدّ هذا التوزيع القضائي انعكاساً لمبدأ الفصل بين قضاء الأفراد وقضاء الإدارة، وهو ما جعل القانون الإداري التونسي يقوم على التمييز، مبدئيا، بين القضاء العدلي الذي يختص بالنزاعات المدنية والجزائية، وبين القضاء الإداري الذي يعهد إليه بالفصل في المنازعات الإدارية الناشئة عن تصرفات السلطة العامة. رغم أن الفقه الفرنسي اعتبر منذ زمن بعيد أن القاضي العدلي هو الحامي الطبيعي للحقوق والحريات، وهو ما كرّسته أيضًا بعض قرارات فقه القضاء التونسي، على غرار القرار عدد 96119 الصادر عن الدائرة الاستعجالية بالمحكمة الابتدائية بصفاقس بتاريخ 7 ديسمبر 2102، برئاسة القاضي أحمد البهلول، والمتعلّق برفع النفايات من المدينة، إضافة إلى القرارات الاستعجالية الصادرة عن قاضي الناحية بعقارب بشأن غلق مصب “القنّة”، والتي تؤكد جميعها الدور المحوري للقاضي العدلي في حماية الحق في بيئة سليمة، فإن التركيز في هذا الموضوع سيكون على دور القاضي الإداري في حماية هذا الحق. ولا يُعدّ هذا التوجّه تهميشًا لبقية المؤسسات القضائية، بل هو محاولة لتسليط الضوء على وظيفة مكمّلة ضمن منظومة الحقوق والحريات.

ولا شك أن خضوع الغالبية العظمى من أعمال الإدارة لرقابة القاضي الإداري يظل من أبرز المبادئ الراسخة في النظام القانوني التونسي، حيث اعتبر القاضي عبد الرزاق الزنوني أن هذه الرقابة تمثل الأداة الجوهرية التي يمارسها القاضي الإداري من أجل تكريس دولة القانون وضمان حماية الحقوق والحريات فالقاضي الإداري لا يكتفي بمجرد مراقبة مدى احترام الإدارة للقانون، بل يضطلع بدور محوري في إرساء ثقافة المساءلة القانونية، وترسيخ مبدأ الشرعية، والتوفيق بين متطلبات سير المرافق العامة بانتظام واطراد وبين احترام حقوق الأفراد وصون حرياتهم الأساسية. الأمر الذي جعل القاضي الإداري منذ 1891، يقرّ، في قرار بيار فالكون، بأنه حامي الحقوق والحريات.

على الرغم من أن الإدارة تملك سلطة تقييد بعض الحقوق والحريات لحماية النظام العام، إلا أن هذه السلطة ليست مطلقة، بل يجب أن تظل خاضعة لضوابط قانونية دقيقة تضمن الضرورة والتناسب. حتى لا تخرج عن إطار الشرعية.

ويبرز القضاء الإداري كسلطة مختصة بمراقبة مدى شرعية قرارات الإدارة ومدى التزامها بحدود سلطتها التقديرية. وفي حال ثبت وجود تجاوز أو ضرر غير مبرر، يتدخل القاضي الإداري لإلغاء القرار غير الشرعي أو الحكم بالتعويض، مما يعزز التوازن بين متطلبات المصلحة العامة وحقوق الأفراد كأحد مقتضيات دولة القانون.لا يقتصر ارتباط القضاء الإداري بالحقوق والحريات عند الرقابة النزاعية فحسب بل يمتد وذلك في إطار الدور الاستشاري للقاضي الإداري ليأخذ شكل رقابة سابقة.

إلى أي مدى تحقّق الرقابة القضائية على أعمال الإدارة حماية ناجعة للحقوق والحريات، في ظل المعوقات المرتبطة بتنظيم القضاء وبتنفيذ أحكامه في تونس؟

يعدّ اتساع نطاق الرقابة القضائية آلية فعّالة في ضمان الحقوق والحريات (الجزء الأول)، لذا فإن تعثّر هذه الرقابة، سواء على المستوى البنيوي أو الواقعي، من شأنه أن يُفرغ الحماية القضائية من محتواها ويُهدّد فاعليّتها (الجزء الثاني).