مسؤوليّة الدولة في إنصاف النساء والفتيات ضحايا العنف الجنسيّ

Article By :

يتّصل مبدأ حماية حرمة الجسد بحماية كرامة الذات البشريّة باعتبارها قيمة إنسانيّة تحرّر الجسد البشريّ من كافّة أشكال الإكراه والضغط والتقييد الممارس عليه. ويعتبر العنف الجنسيّ في هذا السّياق من أكثر الاعتداءات التّي تجرّد الجسد من قيم الكرامة والحريّة. ويجعله موضوع صراع وتسلّط. وقد عرّف المشرّع العنف الجنسي لأوّل مرّة صلب الفصل الثالث من القانون الأساسيّ عدد 85 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة والمؤرّخ في 11 أوت 7102 بأنّه «كلّ فعل أو قول يهدف مرتكبه إلى إخضاع المرأة لرغباته أو رغبات غيره الجنسيّة باستخدام الإكراه أو التغرير أو الضغط وغيرها من وسائل إضعاف وسلب الإرادة وذلك بغض النظر عن علاقة الفاعل بالضحيّة». ويستنتج من هذا التعريف أنّ العنف الجنسيّ هو كلّ فعل ذو طبيعة جنسيّة غير موافق عليه.

وأخذا بخطورة آثار العنف الجنسيّ، تبنّى المشرّع مؤخرا في وصفه للشّخص المسلّط عليه الفعل الجنسيّ دون رضاه مصطلح الضحيّة. وحسب معجم المعاني يقال «راح ضحيَّة له أي أصابه سوء عن طريقه، أو بسببه» وفي اللّغة الفرنسيّة يشار إلى مصطلح الضحيّة بـ victime وفي اللّغة الانغليزية بـ victim، وهما عباراتان متأتيان من اللاّتينية victima والتّي تحيل في أصلها على الكائن الحيّ المقدّم للآلهة. وقد عرّف القانون الأساسيّ عدد 61 لسنة 6102 المؤرّخ في 3 أوت 6102 والمتعلّق بمنع الاتّجار بالأشخاص ومكافحته الضحيّة في فصله الثاني بأنّها كلّ «شخص طبيعيّ لحقه ضرر نشأ مباشرة عن إحدى جرائم الاتّجار بالبشر المنصوص عليها بهذا القانون». أمّا القانون الأساسي عدد 85 المتعلّق بمكافحة العنف ضدّ المرأة فقد أسند في فصله الثالث صفة الضحيّة للمرأة والأطفال المقيمين معها دون اشتراط وجود رابطة دمويّة مع المرأة المسلّط عليها العنف بسبب نوعها الاجتماعي.

ليتجاوز المشرّع بذلك عباراتي المتضرّر.ة والمجني عليه.ها. حيث تحيل عبارة المتضرّر.ة إلى « الشخص الطبيعيّ أو المعنوي الذي نالته الجريمة بضررها كلّه أو ببعض منه». أمّا عبارة المجني عليه.ها فتعتمد للإشارة على من «وقع العدوان على حقّه أو مصلحته المحميّة مباشرة سواء ترتبت على ذلك نتيجة ضارة أم لا وسواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا». وبذلك يختلف مفهوم المجني عليه.ها عن المتضرّر.ة في كونه صاحب الحقّ المحمي بالنصّ التجريمي وبالتّالي تترتّب عنه فقط المؤاخذة الجزائيّة. في حين أنّ المتضرّر هو الذّي أصيب بضرر شخصيّ ومباشر وحال «نشأ مباشرة عن الجريمة» وتقتصر حقوقه على الحقّ في طلب التّعويض حسب منطوق الفصل 7 من مجلّة الإجراءات الجزائية. ظاهريا تبدو هذه التعاريف مشابهة لمفهوم الضحيّة. بيد أنّ مصطلح الضحيّة يتسّم بكونه عاما وشاملا وفي اتّساعه يستوعب مختلف العبارات التقليديّة دون أن يقتصر عليها ليشمل جوانب لا تطالها المفاهيم ذات الصبغة القانونيّة الزجريّة كالتزام المشرّع بموجب إسناد هذه الصّفة بواجب توفير الحماية والمتابعة للضحيّة والعمل على إعادة إدماجها، لتسهيل المرور من موقع ضحيّة عنف جنسيّ إلى ناجية من العنف.

وفي هذا السياق، أكّد الإعلان العالمي المتعلّق بحقّ ومسؤوليّة اﻷفراد والجماعات وهيئات المجتمع في تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسيّة المعترف بها عالميّا في مادتّه الثانية على أنّه «يقع على عاتق كلّ دولة مسؤوليّة وواجب رئيسيّان في حماية وتعزيز وإعمال جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية». كما تتّخذ الدولة كلّ «الخطوات التشريعية والإدارية والخطوات الأخرى اللاّزمة لضمان التمتّع الفعليّ بالحقوق والحريّات» لكافّة الأفراد. وهو ما يحمل على عاتق الدّولة صنفين من الالتزامات، يتمثّل الأوّل في التزام سلبي يمنع الدّولة من المساس بصورة غير مبرّرة أو غير متناسبة من جوهر الحقوق والحرّيات الإنسانيّة. أمّا الالتزام الثاني فهو إيجابيّ يدفع الدّولة إلى اتّخاذ كل التدابير والاستراتيجيّات القانونيّة اللاّزمة لمنع كلّ أشكال الاعتداء على الحقوق والحرّيات خاصّة الانتهاكات المسلّطة على الحرمة الجسديّة والمعنويّة. بذلك يتفرّع عن واجب الدّولة في تحقيق حماية ناجعة لحقوق الإنسان واجب توفير سبل الإنصاف للنساء ضحايا العنف وهو ما أكّده كلّ من الفصل 74 من دستور 4102 والفصل 15 من دستور 2202. ويقصد بالإنصاف في هذا السياق اعتماد مقاربة شاملة تعكس التزام الدّولة بحماية النّساء والفتيات والأطفال من العنف الجنسي والإحاطة بهنّ.م.

وكنتيجة لتبنّي المشرّع لسياسة جزائيّة تعتبر العنف ضدّ النّساء والفتيات شأنا عاما تمّ الاعتراف بجملة من المسؤوليّات المحمولة على الدّولة بمختلف هياكلها منها الالتزام بضرورة الوقاية من العنف والإحاطة بالضحيّة. (المبحث الأوّل) وتنفذّ هذه الإجراءات من قبل سلطات مختصّة ومؤهلّة لهذه المهمّة. والتّي تلتزم حسب إعلان الأمم المتحدّة بشأن المبادئ الأساسيّة لتوفير العدالة لضحايا الجريمة وإساءة استعمال السلطة بتوفير «المساعدة المناسبة للضحيّة في جميع مراحل الإجراءات واتّخاذ تدابير ترمي إلى ضمان سلامة الضحيّة واستجابة الإجراءات القضائيّة والإداريّة لاحتياجات الضحيّة وتجنّب التّأخير في البتّ في القضايا وتنفيذ القرارات والأحكام الصادرة لفائدة الضّحيّة». (المبحث الثاني)

المبحث الأوّل: التعهّد بحماية الضحيّة

بدخول القانون الأساسيّ المتعلّق بمكافحة الاتّجار بالأشخاص وقانون القضاء على العنف ضدّ المرأة حيّز النّفاذ أصبح الاهتمام بضحيّة العنف أمرا جليّا حتى تتعادل الكفّة بين الدّفاع عن حقوق المتّهم وبين حماية الضحيّة والاعتراف لها بمجموعة من الحقوق وقد اعترف هذان القانونان بجملة من الضّمانات التّشريعية تمكّن الضحيّة من ممارسة جملة من الحقوق سواء على الصعيد المدنيّ أو الجزائيّ. لذلك فإنّه من الضّروري في مرحلة أولى الوقوف على أهميّة الاعتراف التشريعيّ بصفة الضحيّة (الفقرة الأولى) وفي مرحلة ثانية التعرّض إلى نتائج هذا الاعتراف. (الفقرة الثانية)